الساحرة المستديرة: هذا ما يطلقونه على كرة القدم، ولا شك أن هذه التسمية معبرة بحق عن تأثيرها على الشعوب ونخص منها الإسلامية والعربية، وإذا انتقلنا لدائرة أكثر خصوصية نستطيع القول أنها تحتل مساحة شاسعة في حياة شبابنا، وتشغل حيزًا كبيرًا من دائرة اهتماماتهم، لذلك أحببت أن أفتح هذا الملف عن الساحرة المستديرة ومدى تأثيرها على الشباب، وما وراء هذه الظاهرة، من خلال رؤية موضوعية لواقعهم حتى نقف على تقييم صحيح لهذه الظاهرة، نصل من خلاله إلى تقييم عام لوضع الشباب ومدى تمثلهم الواقع المنشود الذي يريده الإسلام لهم.
أعراض السحر
إن افتتان الشباب بالساحرة المستديرة له مظاهر عديدة، تبين مدى اهتمام الشباب بها وتفاعلهم معها، فمن ذلك:
ذاكرة نشطة:في وسائل المواصلات، في الشوارع، وفي أي تجمعات تسمع الشباب يتحدثون عن الكرة ومبارياتها، وتقف من خلال أحاديثهم على مدى ثقافتهم الكروية سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وتعجب من هذه الذاكرة التي تمتلئ بأسماء الأندية العربية والأوربية، وأسماء اللاعبين المحليين والدوليين، وأسماء العالمية، وأخبار احتراف اللاعبين، ومشكلاتهم مع أنديتهم، وأحوالهم الاجتماعية من زواج أو طلاق، بل ويحفظون أرقام (فانلات) اللاعبين، ولا نبالغ إن قلنا أنهم يعرفون الرواتب التي يتقاضاها اللاعبون في كثير من الأندية. هذه الذاكرة النشطة تبعث في أوصالك الأسى، على حفظ القرآن والحديث، والثقافة والإطلاع المثمر، وهذه الذاكرة النشطة إنما ظهرت قدرتها بسبب فرط الاهتمام والتفاعل من قِبَل الشباب مع الكرة.
اكتئاب:فمتعة مشاهدة الكرة مبنية على المباريات، لا على اللعب المطلق، فإن الناس لا يقبلون مثلاً على مشاهدة تمرينات اللاعبين بقدر الإقبال على مشاهدة المباريات، فالتباري هو الذي يصنع الإثارة، ويزيدها عشق الشاب وتشجيعه لأحد الفريقين وهذه بالطبع نتيجة حتمية لمشاهدة المباريات، فلا شك أن الشاب يعيش بكيانه مع فريقه الذي يحب ويشجع، فيأتي هذا اليوم الذي يعلم فيه أن هناك مباراة سيلعبها فريقه في يوم ما، فيظل يرقب هذا اليوم، ويفرغ نفسه من الشواغل، وربما عطل مصالح وألغى مواعيد هامة، وقد يواعد أصدقاءه ليشاهدوا المباراة سويًا، وقد يذهب لمشاهدتها في الملعب الذي تقام فيه، جو من التوتر تصنعه تلك المباراة لدى الشاب، ويزداد التوتر عندما تبدأ المباراة، فلا يكاد يجلس في مكانه، يقوم ويصيح مع كل مشهد، ويقرض أظافره من فرط التوتر، ويعترض على قرارات الحكم أكثر مما يعترض عليها الجهاز الفني للفريق، ناهيك عن السباب والشتائم التي يكيلها لفريقه حثًا وتحريضًا، وللفريق الآخر حقدًا وكرهًا.
فإن فاز فريقه عانق أصحابه، وصرخ بأعلى صوته، وغمرته الفرحة كما لو كان واحدًا من أعضاء الفريق الذين ستنهال عليهم الجوائز والمكافآت، أما لو خسر فريقه فتلك هي المشكلة العظمى، فيصيبه الاكتئاب، يبدأ الأمر بالوجوم الذي يخيم عليه بعد أن يطلق الحكم صفارة النهاية، وكأنها نهاية الشاب لا نهاية المباراة، فيكفهر وجهه، ويدخل غرفته يغلق بابها عليه، لا يريد أن يأكل، لا يريد التحدث إلى أحد، ويكون يومًا لا ينسى في بيته، وربما سالت من عينيه دموع الحزن على فريقه، وقد ذكرني هذا بالشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، فيحكى عنه: أن أمه كانت إذا رأت عليه علامات الحزن والهم قالت له : ما لك يا بني؟ أمات مسلم في الصين اليوم؟ (أفتش عن إنسان الدويش). لما ترى منه من تفاعل واهتمام بقضايا المسلمين، فشتان شتان بين من سالت دموعه وانفطر قلبه لحال المسلمين وبين من يفعل حزنًا منه على فريقه الخاسر!!
اللهم انصرنا نصرًا مؤزرًا:ليست هذه الدعوات الحارة لنصرة المسلمين المجاهدين، وإنما انطلقت بزفرات حارة، وخرجت من سويداء القلب حتى ينصر الله الفريق الذي يشجعه صاحب الدعوة، فكثيرًا ما يتناهى إلى سمعي هذه الدعوات الحارة من قبل الشباب، وفي المقابل لا تجده يتذكر إخوانه المنكوبين في شتى بقاع الأرض بدعوة من تلك الدعوات الصادقة، وإن مما يطمئنه ويزيده رضى بما يصنع، أن تكون مباراة فريقه مثلًا مع فريق من دولة ليست بمسلمة، فيعطي الأمر بعدًا دينيًا يشعره بأن هذا التشجيع وهذا الهتاف إنما هو نابع من معين قضية عظيمة.
وقد ذكرتني هذه الدعوات الحارة التي تنم عن الاهتمام الجم بقول أويس القرني الذي بلغ من رقته لحال المسلمين أنه كان يقول: "اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة وجسد عار"! (حلية الأولياء 2 / 87).
أحلام وطموحات:صارت أحلام كثير من الشباب تنصرف إلى الرغبة في أن يكونوا لاعبي كرة مشهورين كهؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان، ويرون أن هذا هو المستقبل الحقيقي الذي يجمع بين المتعة والإثارة، وبين الشهرة والمال والمجد، بل إن هذه القناعات امتدت إلى الآباء والأمهات، فأعرف كثيرًا من الناس يخططون لأبنائهم منذ نعومة أظافرهم لأن يكونوا لاعبي كرة محترفين.
فهذه الشهرة التي يكتسبها لاعب الكرة، وهذا المكسب السهل، يدفعان الشباب إلى هذه الأحلام والأمنيات، خاصة إذا كان يمتلك الموهبة اللازمة، فهذا مظهر آخر من مظاهر تفاعل الشباب مع كرة القدم ومدى تأثيرها عليهم
دوافع هذا الافتتانأولاً: الفراغ
وهو ما يجعل الشاب ينزح إلى قتل وقته بمتابعة المباريات، مما يمنحه بعض التسلية والمتعة، التي يفتقدها، وإذا أضفنا إلى ذلك ضعف الوازع الديني الذي يحمل صاحبه على المحافظة على وقته باعتباره مسئولًا أمام الله عنه، نرى أن هذه الظاهرة نتيجة حتمية للفراغ.
ثانيًا: عدم وجود اهتمامات إيجابية لدى الشاب:
فإنه متى كان المرء عالي الهمة، يعيش قضية عظيمة، أو له اهتمامات طيبة، كان حريصًا على وقته، لا يعطي مشاهدة مباريات الكرة اهتمامًا زائدًا عن حجمها، فالإنسان دائمًا يبحث عن الإشباع النفسي، وهو ما لا يتحقق للمرء دون أن يكونه له اهتمامات، يشاركه فيها الآخرون، فإن لم تكن هذه الاهتمامات على مستوى عال، لجأ بالطبع إلى سد الخانة الناقصة بالاهتمامات المتواضعة من أمثال هذا التفاعل غير المنضبط مع الساحرة المستديرة.
ثالثًا: التنفيث عن الكبت
مشكلة البطالة، الضغوطات الاقتصادية، إلحاح الرغبة في الزواج، مشكلات البيت والأسرة، كل هذه المشكلات ويزيد تدفعه إلى أن يفرغ همومه عبر تلك الانفعالات والهتافات والتحديات، لذلك عزا البعض هذا التفاعل الهستيري للشعب المصري مع فريقه في كأس الأمم الأفريقية الماضي، إلى الضغوطات الاقتصادية التي يعيشها ذلك المجتمع.
رابعًا: التهييج الإعلامي:
فهناك قنوات فضائية متخصصة في هذا الجانب، تنقل مباريات الكرة التي تقام في شتى بقاع المعمورة، ولا تترك مجالًا للناس لالتقاط أنفاسهم، من مباراة إلى مباراة، إلى تحليلات...، وهو مما يزيد الثقافة الكروية التي تزيد من التعلق بمباريات الكرة حيث يكون الحديث عنها مجالًا لاستعراض الثقافات، بالإضافة إلى التغطية الصحفية الكاملة لكرة القدم المحلية والعالمية.
ويعمق من أثر هذا العامل تناوله لنجوم الكرة المبرزين الذين يثيرون أحلام الشباب، فهم يقدمون للناس وسط هالة من الألقاب المثيرة كفارس الكرة العربية مثلًا أو الساحر...، وقد يكون اللاعب مبعوثًا من قبل بلاده لحضور مؤتمرات في الخارج، أو يستضاف في حفلات ضخمة، ونحو ذلك مما يشهي الشباب لمثل هذه الأوضاع.
فكم من أموال تنفقها الدول على لاعبي كرة القدم، بالإضافة إلى إبرازهم وتلميعهم كما لو كانوا أصحاب قضايا مصيرية تخص الأمة، وتكريمهم على مرأى ومسمع الجماهير، بينما تتغافل بلادنا الإسلامية والعربية عن أصحاب الإنجازات المثمرة، والمواهب التي لا تجد محضنًا، وأهل العلم والفضل، فصار الشباب يحفظون أسماء الفرق بلاعبيها البدلاء، بينما لا يعرفون صناع الحياة ونجوم الفاعلية في بلادهم.
إن هذه القسمة الضيزى التي تتعمدها الحكومات لهي هدم لأحلام الشباب الحيارى الذين يتخبطون في ظلمات هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية، لذلك فلا عجب أن يترك الشاب دراسته للتوجه إلى الوسط الرياضي، ولا عجب وأن تهفو قلوب شباب الأمة إلى أن يكونوا لاعبي كرة مشهورين.
فالإعلام هو المسئول الأول عن هذا التفاعل المحموم مع مباريات الكرة، والكارثة أن هذا التفاعل قد بلغت سيطرته وهيمنته لدرجة أنه يتسبب في إحداث أزمات دبلوماسية بين الدول، فها هي دولة إسلامية عربية تطرد سفير إحدى الدول الشقيقة من أراضيها، لا لشيء إلا لأن دولة هذا السفير لم تعط تلك الدولة صوتها ليقام كأس العالم على أرضها.
وقد يصل هذا الهوس إلى حد المجازر والحروب القصيرة، كما حدث في استاد بعض الدول الإسلامية العربية عندما تبادل مشجعي الفريقين إطلاق النيران الحية، وراح ضحية هذه المهزلة أنفس معصومة
ولكن ما هو التقييم الموضوعي - من خلال استقراء الواقع- لتأثير هذا الاهتمام المحموم على الناس عمومًا والشباب خاصة، ما هي الأضرار التي تلحق بالشباب من جراء ذلك الاهتمام؟ وما مدى ارتباط هذه الظاهرة بالأيد الخارجية؟